بحث للشيخ (علي جمعة) من كتاب (البيان لما يشغل الأذهان) من موقع (دار الإفتاء المصرية)
ما حكم إطلاق اللحية ؟
ورد الأمر بإطلاق اللحية وإعفائها في أكثر من حديث نبوي منها : قوله صلى الله عليه وسلم : «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب»([1])، وقد اختلف الفقهاء بشأن دلالة هذا الأمر النبوي، هل هو للوجوب أو للندب ؟ فذهب جمهور الفقهاء أنه للوجوب، وذهب الشافعية إلى أنه للندب، وقد كثرت نصوص علماء المذهب الشافعي في تقرير هذا الحكم عندهم ،نذكر منها ما يلي :
قول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري : « (و) يكره (نتفها) أي اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة»([2]). وقد علق العلامة الرملي على هذا الكلام في حاشيته على كتاب أسنى المطالب بقوله : « (قوله : ويكره نتفها) أي اللحية إلخ، ومثله حلقها؛ فقول الحليمي في منهاجه لا يحل لأحد أن يحلق لحيته، ولا حاجبيه ضعيف»([3]).
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله ما نصه : « (فرع) ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالاً مكروهة؛ منها : نتفها، وحلقها، وكذا الحاجبان»([4]). وأكد ذلك الكلام الإمام ابن قاسم العبادي في حاشيته على تحفة المحتاج ،حيث قال : « قوله : (أو يحرم كان خلاف المعتمد) في شرح العباب : فائدة : قال الشيخان : يكره حلق اللحية»([5])، وقال العلامة البيجرمي في شرحه على الخطيب ما نصه : « إن حلق اللحية مكروه حتى من الرجل وليس حرامًا»([6]). وذكر الرجل هنا ليس مقابل المرأة، بل مقابل الشاب الصغير؛ حيث كان السياق أنه كان يكره حلقها أو طلوعها للشاب الصغير، فعلق بأن أول طلوعها ليس قيدًا، بل يكره للرجل الكبير كذلك.
وقد جاء القول بكراهة حلق اللحية عن غير الشافعية، من هؤلاء الإمام القاضي عياض رحمه الله صاحب كتاب الشفاء ،وأحد أئمة المالكية ؛حيث قال : « يكره حلقها وقصها وتحريقها»([7]).
ويبدو أن من ذهب إلى القول بوجوب إطلاق اللحية، وحرمة حلقها من الفقهاء لاحظ أمرًا زائدًا على النص النبوي، وهي أن حلقها كان معيبًا، ومخالفة لشكل البشر وقتها، ويُعير الإنسان به، ويُشار إليه في الطرقات، قال الرملي في حديثه عن التعزير وأنه لا يجوز أن يكون بحلق اللحية : «قوله : لا لحيته. قال شيخنا : لأن حلقها مُثلة له، ويشتد تعييره بذلك»([8]).
فإن تعلق الأمر بالعادة قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، واللحية من العادات، وذهب الفقهاء للقول بندب أشياء كثيرة ورد فيها النص النبوي صريحًا بالأمر؛ وذلك لتعلقه بالعادة، فعلى سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم : «غيروا الشيب ولا تتشبهوا بأعدائكم من المشركين، وخير ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم »([9]).
فصيغة الأمر في حديث تغير المشيب لا تقل صراحة عنها في حديث إطلاق اللحية، ولكن لما كان تغيير المشيب ليس مستنكرًا في المجتمع تركه وفعله، ذهب الفقهاء للقول بندب تغيير المشيب، ولم يذهبوا إلى القول بوجوبه.
وعلى هذا المنوال سار علماء الإسلام، فتشددوا في وضع القبعة على الرأس، ولبس الإفرنجة، وذهبوا إلى القول بكفر من فعل ذلك، لا لأن هذا الفعل كفر في ذاته، وإنما لدلالة هذا الفعل وقتها على الكفر، ولما سار لبس الإفرنجة هو عادة القوم، لم يقل أحد من علماء الإسلام بكفر من لبسه.
فإن حكم اللحية في أيام السلف، وكل أهل الأرض كافرهم ومسلمهم يطلقونها، وليس هناك مسوغ لحلقها ؛كان خلافيًّا بين الجمهور الذين أوجبوا إطلاقها، والشافعية الذين اعتبروا إطلاقها سنة، ولا يأثم حالقها.
ولذا نرى تحتم العمل بقول الشافعية في هذا الزمان خاصة، وقد تغيرت العادات، فحلق اللحية مكروه، وإطلاقها سنة يثاب عليها المسلم، مع الأخذ في الاعتبار بحسن مظهرها، وتهذيبها بما يتناسب مع الوجه وحسن مظهر المسلم، والله تعالى أعلى وأعلم.
********************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق